تحديات جسام تواجه حكومة السودان الجديدة- هل ينجح إدريس؟

بعد انتظار طال أمده، أعلن رئيس الوزراء السوداني المكلف، الدكتور كامل إدريس، عن تعيين وزيري الدفاع والداخلية في تشكيلته الحكومية المرتقبة، دون تحديد جدول زمني للإعلان عن بقية الحقائب الوزارية، الأمر الذي ينم عن حجم التحديات المعقدة التي تواجهه في حواراته ومشاوراته مع مختلف الأطراف السياسية الفاعلة على الساحة السودانية، وعلى وجه الخصوص الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا للسلام قبل خمس سنوات.
تجدر الإشارة إلى أن رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، كان قد كلف الدكتور إدريس بتولي مهام رئيس الوزراء، وذلك بعد مرور ما يقارب الأربع سنوات على قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول، والتي تم بموجبها حل الحكومة السابقة وإنهاء الشراكة مع قوى الحرية والتغيير. وقد ظل هذا المنصب شاغرًا طيلة تلك المدة، مما أفضى إلى تفاقم المشكلات الهيكلية في جهاز الخدمة العامة، وترهل الأداء الحكومي.
وعلى الرغم من أن اسم الدكتور كامل إدريس قد تم تداوله في وقت مبكر كأحد المرشحين لتولي هذا المنصب الرفيع، إلا أن تعقيدات التوازنات السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي قد أخرت توليه المسؤولية لمدة تقارب الخمس سنوات. ويأتي الآن تعيينه في خضم تحديات جمة تواجه السودان، لا سيما في ظل الحرب المستمرة التي تشنها ميليشيا الدعم السريع على الشعب السوداني، والتي تجاوزت العامين، مخلفة وراءها مآسي إنسانية جسيمة، ووضعا اقتصاديا متدهورا، وتشرذما في المشهد السياسي، فضلا عن خلافات عميقة بين مختلف المكونات الاجتماعية السودانية.
لقد فاقمت هذه الحرب الدائرة الأوضاع الصعبة الموروثة أصلا في هذا البلد الذي مزقته الصراعات وأعاقت مسيرة التنمية فيه. وبالنظر إلى أن الدكتور كامل إدريس لا ينتمي إلى النخبة السياسية المعروفة تاريخيًا في السودان بتوزيع الولاءات والانتماءات بين القوى السياسية المتنافسة، حيث إنه لا ينتمي إلى أي حزب سياسي، بل ظل خارج البلاد حتى بعد انتهاء فترة ولايته في قيادة المنظمة العالمية للملكية الفكرية، فإن ذلك قد يشكل في ذات الوقت عاملا من عوامل القوة وعاملا من عوامل الضعف.
ففي بلد مثل السودان، الذي تلعب فيه العوامل الاجتماعية والقبلية دورا مؤثرا في تشكيل المشهد السياسي، يحتاج المرء إلى فهم عميق للديناميات التي تحكم هذا التنوع القبلي والإثني، ومن ثم ترتيب الأولويات على نحو يضمن تحقيق التوازن والعدالة والرضا. بينما يرى مراقبون آخرون أن عدم انتماء الدكتور كامل إدريس إلى أي حزب سياسي قد يعفيه من الكثير من الالتزامات التي تقع على عاتق الأحزاب، كونها تتشكل من خلفيات اجتماعية متنوعة وملزمة بتحقيق التوافق والمشاركة العادلة في التمثيل.
كل هذه العوامل مجتمعة تثير تساؤلا محوريا حول فرص نجاحه في ظل هذه الظروف الصعبة والتحديات الجسيمة.
وضع عسكري مقلق وملفات مدنية شائكة
لعل التحدي الأهم الذي يواجه الدكتور إدريس هو الوضع العسكري والأمني المتدهور في البلاد. وعلى الرغم من أن هذه المسؤولية تقع مباشرة على عاتق مجلس السيادة والقوات المسلحة السودانية، إلا أن تفاصيل إدارة هذا الملف وتبعاته العملية والإنسانية ستؤثر بشكل كبير على فرص نجاح هذه الحكومة التي لم يتم الإعلان عن تشكيلتها النهائية بعد.
ومن مدينة بورتسودان الساحلية الواقعة على بعد ألف كيلومتر شرق العاصمة الخرطوم، والتي تمثل العاصمة الإدارية المؤقتة حاليًا، صرح الدكتور إدريس بأن من بين أولويات حكومته هو العودة إلى العاصمة الخرطوم ومباشرة المهام منها. ومع أهمية هذا الهدف وتطلعات ملايين السودانيين إليه، يبقى التساؤل قائما حول ما إذا كانت الحكومة قادرة على تحقيقه في المدى القريب؟
فعليا، لا تزال الحرب التي تشنها الميليشيا المتمردة على الشعب السوداني مستمرة. وصحيح أن الجيش والقوات المساندة له قد حققت، بعد تضحيات كبيرة، انتصارات ملموسة في دحر الميليشيا وطردها من ولايات سنار والجزيرة والخرطوم، إلا أن الميليشيا لجأت إلى تكتيك جديد يتمثل في مهاجمة هذه المواقع عبر الطائرات المسيرة الاستراتيجية واستهداف البنية التحتية الحيوية، لا سيما خدمات الكهرباء والمياه، بهدف تعطيل خطة الحكومة الرامية إلى تطبيع الأوضاع العامة والعمل على إعادة ملايين النازحين واللاجئين إلى ديارهم. هذا بالإضافة إلى استمرار معركة الكرامة في ولايات كردفان، حيث تحقق وحدات الجيش تقدما ملحوظا على الأرض.
وعلى الرغم من التحالف الذي نشأ بين الميليشيا وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبدالعزيز الحلو، إلا أن الجيش قد حقق انتصارات متتالية في مدن كردفان، واستعاد بعض المناطق من حركات التمرد هناك. وفي دارفور، تسيطر الميليشيا على أربع ولايات، بينما تستعر المعارك حول الفاشر وتخومها في ولاية شمال دارفور.
وقد شكل صمود مدينة الفاشر والتضحيات التي قدمتها القوات المسلحة مسنودة بالقوات المشتركة - وهي قوة قتالية فعالة تتكون من حركات دارفور الموقعة على اتفاق جوبا - إفشالا لخطط الميليشيا لإعلان حكومة موازية تكون الفاشر عاصمتها.
ولا يقل الملف الاقتصادي تعقيدا عن الملف العسكري والأمني، حيث خلفت الحرب وضعا معقدا وغاية في الصعوبة. فقد استهدفت ميليشيا الدعم السريع، وبشكل ممنهج، كافة المؤسسات الاقتصادية من مصانع وبنوك ودمرتها تدميرا شاملا في العاصمة الخرطوم. وتشير تقديرات أولية إلى أن حجم الخسائر يتجاوز 215 مليار دولار في القطاعين الصناعي والزراعي وحدهما، بينما تفيد تقارير المنظمات الإنسانية بأن 70٪ من المستشفيات والمؤسسات الصحية خارج الخدمة حاليا، وتقدر الخسائر في البنية الصحية بحوالي 11 مليار دولار.
كما قامت الميليشيا بعمليات نهب واسعة ومنظمة استهدفت ممتلكات المواطنين ومدخراتهم، بجانب تخريب خدمات المياه والكهرباء وسرقة معدات الطاقة والمحولات الكهربائية. ويتمثل التحدي الأبرز في هذا المحور في كيفية إعادة تشغيل النظام الاقتصادي وإعادة بناء منظومته اللوجستية، وضمان توفير المتطلبات العاجلة لتحريك عجلة الاقتصاد.
إنسانيا، تصنف الأمم المتحدة الوضع في السودان على أنه الأسوأ عالميا، حيث تسببت الحرب في مقتل ما بين 70 ألفا إلى 100 ألف مدني، وتجاوز عدد النازحين واللاجئين إلى دول الجوار عشرة ملايين، وتوقفت العملية التعليمية لأكثر من ستة ملايين تلميذ، وأكثر من 700 ألف طالب جامعي.
وبعد تحرير الخرطوم، بدأت عودة المواطنين إلى منازلهم، ولكن لا تزال الشكوى قائمة من انعدام الخدمات الأساسية، خاصة بعد استهداف ميليشيا الدعم السريع لمحطات المياه والكهرباء بالطائرات المسيرة. ويؤكد والي ولاية الخرطوم أن حكومة الولاية قادرة على توفير الأمن والخدمات اللازمة.
وتتفاقم الأزمة الإنسانية في ولايات دارفور وبعض مناطق ولايات كردفان، حيث لا تزال المعارك مستمرة، مما يضعف قدرة المواطنين على الوصول إلى مزارعهم وممارسة الأنشطة الاقتصادية الضرورية.
مشاورات صعبة لتشكيل الحكومة
يحتاج رئيس الوزراء المكلف، كامل إدريس، إلى تجاوز عقبة التشكيل الوزاري للوصول إلى الملفات المعقدة ومباشرة مهامه. ولا تبدو هذه الخطوة سهلة، خاصة أن أطراف اتفاق جوبا، وفي مقدمتها حركة العدل والمساواة برئاسة الدكتور جبريل إبراهيم وزير المالية، وحركة جيش تحرير السودان برئاسة مني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، تصر على الاحتفاظ بنفس الوزارات الهامة كوزارة المالية والمعادن والتي ظلت تشغلها منذ التوقيع على اتفاق جوبا في العام 2020.
بينما يرى رئيس الوزراء المكلف والفريق المحيط به أن الحكومة ملزمة فقط بنسبة الـ 25٪ التي نصت عليها اتفاقية جوبا للسلام، دون تحديد وزارات معينة. وتشير تقارير صحفية إلى أن رئيس مجلس السيادة قد تدخل في المشاورات لتقريب وجهات النظر وتضييق الخلافات.
وقد أدى الفراغ في منصب رئيس الوزراء إلى حدوث مشاكل في الخدمة المدنية، مما اضطر مجلس السيادة إلى ممارسة بعض الصلاحيات التنفيذية في الفترة الماضية. وتحتاج مستويات الحكم لإعادة تنظيم الاختصاصات بما يخلق الانسجام والتكامل ويؤسس للتعاون البناء دون تدخل من أحد الأطراف في صلاحيات الآخر.
وعلى أي حال، فإن المهمة الأساسية التي تواجه رئيس الوزراء وحكومته المرتقبة هي استعادة عمل أجهزة الدولة لتعمل بكفاءة وقدرة تمكنها من إعادة تفعيل ديوان الخدمة العامة، والعمل على نقل الحكومة إلى العاصمة القومية الخرطوم، وهو ما يتطلب، وبصورة عاجلة، دعم قوات الشرطة والأمن وأجهزة العدالة كالنيابة والقضاء لتمكينها من القيام بدورها. فمع بداية عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، برزت مشكلة الانفلاتات الأمنية في الخرطوم من قبل مجموعات كانت تعمل مع قوات الدعم السريع، والتي قامت، خلال فترة سيطرتها على الخرطوم، بإطلاق سراح الآلاف من الموقوفين في السجون وتسليحهم في معركة عدوانها ضد الشعب السوداني.
كما أن الحكومة بحاجة ملحة إلى خطة اقتصادية إسعافية تركز على الإسراع بتحريك عجلة الإنتاج في قطاعات الزراعة والصناعة والاستثمار، وتوظيف الموارد المتاحة كالذهب والبترول والموانئ، لتوفير الأرضية المناسبة لانطلاق برنامج إعادة الإعمار الكبير.
وفي الوقت الذي تخوض فيه القوات المسلحة معركة الكرامة ضد الميليشيا المتمردة، فإن الحكومة مدعوة لبذل جهود مضاعفة لتوفير الدعم الداخلي والخارجي من أجل استكمال تحرير البلاد وهزيمة مشروع الميليشيا.
وهذه ليست مهمة سهلة، خاصة في ظل التصعيد الخطير الذي شهدته الحرب في الأسبوع الماضي، حيث احتلت الميليشيا منطقة المثلث الحدودي الاستراتيجية التي تتوزع بين السودان ومصر وليبيا، وذلك بمساندة من الميليشيات الليبية المدعومة من خليفة حفتر، وعلاقات مضطربة مع دول الجوار في تشاد وجنوب السودان وكينيا التي توفر ملاذا آمنا لقيادات الميليشيا العسكرية والسياسية. ويزداد التحدي في هذه النقطة بسبب سعي الميليشيا لإنشاء حكومة موازية في دارفور والمناطق التي تسيطر عليها، على غرار التجربة الليبية.
وعلى الرغم من فشلها حتى الآن في تحقيق ذلك، فإن الأمر يتطلب تحركا دبلوماسيا فاعلا لمحاصرة الميليشيا والقضاء على طموحاتها السياسية. وما يشجع على ذلك هو الترحيب الذي قوبلت به خطوة تعيين رئيس الوزراء من قبل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية وأطراف إقليمية عدة.
ويرجح أن يعود السودان عضوا فاعلا في الاتحاد الأفريقي بعد رفع تجميد عضويته منذ قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول قبل أكثر من ثلاث سنوات. وفي مارس/ آذار الماضي، أدان الاتحاد الأفريقي محاولات الميليشيا إقامة حكومة موازية، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا في الموقف الأفريقي نتيجة للتغيير الذي تم في رئاسة المفوضية والجهود الكبيرة التي اضطلع بها مندوب السودان في المنظمة الأفريقية الهامة. وفي ظل تراجع الحديث عن الحلول السياسية، تحتاج الحكومة إلى صياغة مشروع متكامل للتعامل مع المستجدات المتوقعة في هذا الإطار.
وبعد الانتهاء من المهام العاجلة، تنتظر الحكومة المقبلة مهمة كبرى، وهي كيفية تهيئة البلاد نحو الوضع السياسي الطبيعي، وإنهاء حالة الانتقال الهشة التي استطالت منذ سقوط النظام السابق في أبريل/ نيسان من العام 2019، والتي كان من المتوقع أن تنتهي بالانتخابات بعد أربع سنوات.
ويتمثل التحدي الأبرز هنا في تفكك الحاضنة السياسية التي تقف خلف الجيش، وفشلها في تكوين تحالف مرن يمكنها من الدفع السياسي والاستعداد لمرحلة ما بعد الحرب. وتحتاج الحكومة والمجلس السيادي إلى تعميق التشاور مع الأطراف السياسية لتنظيم الحوار السوداني- السوداني الذي وعد به رئيس الوزراء في أول خطاب له بعد أداء اليمين، وذلك للنظر في كيفية التحول نحو الانتخابات وإنهاء حالة الانتقال. وفي خضم ذلك، تبرز قضايا لا تقل أهمية مثل ترميم النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب، ومواجهة خطاب الكراهية الذي انتشر بصورة كبيرة بين المكونات الاجتماعية.
وعلى كل حال، يبدو أن رئيس الوزراء على دراية كاملة بكل هذه الصعوبات، فقد توجه إلى الشعب السوداني ليحدد أولويات حكومته وخطتها لاستعادة الاستقرار وبناء الدولة. ومن خلال ذلك البيان، أطلق شعار "الأمل" ليكون عنوانا لبرنامج حكومته المنتظرة، كما أنه خاطب وسائل الإعلام داعيا إياها لمساعدة الحكومة على تحري الدقة في نقل الأخبار وعدم المساهمة في تعميق الخلافات بين المكونات الوطنية.
ويحتاج رئيس الوزراء إلى الإسراع بإعلان حكومته، فالشعب يتطلع إلى رؤية العمل والإنجازات على أرض الواقع، والتي تمكنه من العودة إلى دياره واستئناف حياته الطبيعية. ولن يكون شعار "الأمل" وحده كافيا لتحقيق تلك التطلعات الكبيرة، لذلك، لا يزال الكثير من المواطنين يتساءلون: متى ستبدأ المسيرة نحو التنفيذ؟